الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{قَالَ يبنؤمَّ} خَصّ الأمَّ بالإضافة استعظامًا لحقها وترقيقًا لقلبه لا لما قيل من أنه كان أخاه لأم فإن الجمهورَ على أنهما كان شقيقين {لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلاَ بِرَأْسِى} أي ولا بشعر رأسي، روي أنه عليه السلام أخذ شعرَ رأسِه بيمينه ولحيتَه بشماله من شدة غيظِه وفرْطِ غضبِه لله، وكان عليه السلام حديدًا متصلّبًا في كل شيء فلم يتمالكْ حين رآهم يعبدون العجلَ ففعل ما فعل وقوله تعالى: {إِنّى خَشِيتُ}.. إلخ، استئنافٌ سيق لتعليل موجبِ النهي ببيان الداعي إلى ترك المقاتلةِ وتحقيقِ أنه غيرُ عاصٍ لأمره بل ممتثلٌ به، أي إني خشيتُ لو قاتلت بعضَهم ببعض وتفانَوا وتفرقوا {أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِى إِسْرءيلَ} برأيك مع كونهم أبناءَ واحدٍ كما ينبىء عنه ذكرُهم بذلك العنوان دون القوم ونحوِه، وأراد عليه السلام بالتفريق ما يستتبعه القتالُ من التفريق الذي لا يرُجى بعده الاجتماعُ {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِى} يريد به قولَه عليه السلام: اخلُفني في قومي وأصلح.. إلخ، يعني إني رأيت أن الإصلاحَ في حفظ الدَّهْماءِ والمداراةِ معهم إلى أن ترجِع إليهم فلذلك استأنيتُك لتكون أنت المتدارِكَ للأمر حسبما رأيت لاسيما وقد كانوا في غاية القوةِ ونحن على القلة والضّعف كما يُعرب عنه قوله تعالى: {إِنَّ القوم استضعفونى وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِى} {قَالَ} استئنافٌ وقع جوابًا عما نشأ من حكاية ما سلف من اعتذار القوم بإسناد الفسادِ إلى السامري واعتذارِ هارونَ عليه السلام، كأنه قيل: فماذا صنع موسى عليه السلام بعد سماع ما حُكي من الاعتذارين واستقرارِ الفتنة على السامري؟ فقيل: قال موبخًا له: هذا شأنُهم {فَمَا خَطْبُكَ ياسامري} أي ما شأنُك وما مطلوبُك مما فعلت، خاطبه عليه السلام بذلك ليُظهر للناس بُطلانَ كيدِه باعترافه ويفعلَ به وبما صنعه من العقاب ما يكون نكالًا للمفتونين به ولمن خلفهم من الأمم.{قَالَ} أي السامريُّ مجيبًا له عليه السلام: {بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ} بضم الصاد فيهما، وقرئ بكسرها في الأول وفتحِها في الثاني، وقرئ بالتاء على الوجهين على خطاب موسى عليه السلام وقومِه، أي علمتُ ما لم يعلمْه القوم وفطِنت لما لم يفطَنوا له أو رأيت ما لم يرَوه، وهو الأنسب بما سيأتي من قوله: {وكذلك سَوَّلَتْ لِى نَفْسِى} لاسيما على القراءة بالخطاب فإن ادعاءَ علمِ ما لم يعلمه موسى عليه السلام جرأةٌ عظيمة لا تليق بشأنه ولا بمقامه بخلاف ادعاءِ رؤيةِ ما لم يرَه عليه السلام فإنها مما يقع بحسب ما يتفق، وقد كان رأى أن جبريلَ عليه السلام جاء راكبَ فرسٍ وكان كلما رفع الفرسُ يديه أو رجليه على الطريق اليَبَس بخرج من تحته النباتُ في الحال، فعرف أن له شأنًا فأخذ من موطئه حفنةً وذلك قوله تعالى: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرسول} وقرئ من أثر فرسِ الرسولِ أي من تربة موطِيءِ فرسِ الملَك الذي أُرسل إليك ليذهبَ بك إلى الطور، ولعل ذكرَه بعنوان الرسالة للإشعار بوقوفه على ما لم يقِفْ عليه القومُ من الأسرار الإلهية تأكيدًا لما صدّر به مقالتَه والتنبيهِ على وقت أخْذِ ما أخذه، والقبضةُ المرّةُ من القبض أُطلقت على المقبوض مرةً، وقرئ بضم القاف وهو اسمُ المقبوض كالغُرفة والمُضغة، وقرئ فقبصْت قبصة بالصاد المهملة والأول للأخذ بجميع الكف والثاني بأطراف الأصابع، ونحوُهما الخضْمُ والقضم {فَنَبَذْتُهَا} أي في الحُليّ المُذابة فكان ما كان {وكذلك سَوَّلَتْ لِى نَفْسِى} أي ما فعلتُه من القبض والنبذ فقوله تعالى: {ذلك} إشارةٌ إلى مصدر الفعلِ المذكور بعده، ومحلُّ كذلك في الأصل النصبُ على أنه مصدرٌ تشبيهيٌّ أي نعتٌ لمصدر محذوف والتقديرُ سولت لي نفسي تسويلًا كائنًا مثلَ ذلك التسويلِ فقُدّم على الفعل لإفادة القصِر واعتُبرت الكافُ مقحمةً لإفادة تأكيدِ ما أفاده اسمُ الإشارةِ من الفخامة فصار نفسَ المصدرِ المؤكّدِ لا نعتًا له، أي ذلك التزيينَ البديعَ زينت لي نفسي ما فعلتُه، لا تزيينًا أدنى منه ولذلك فعلتُه وحاصلُ جوابه أن ما فعله إنما صدر عنه بمحضر اتباعِ هوى النفسِ الأمارة بالسوء وإغوائِها لا بشيء آخرَ من البرهان العقليّ أو الإلهامِ الإلهي.فعند ذلك {قَالَ} عليه السلام {فاذهب} أي من بين الناس وقوله تعالى: {قَالَ فاذهب فَإِنَّ لَكَ}.. إلخ، تعليلٌ لموجب الأمرِ و{في} متعلقةٌ بالاستقرار في لك أي ثابتٌ لك في الحياة أو بمحذوف وقع حالًا من الكاف والعاملُ معنى الاستقرار في الظرف المذكورِ لاعتماده على ما هو مبتدأٌ معنى لا بقوله تعالى: {أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ} لِمَكان، أي إن قولك: لا مساس ثابت لك كائنًا في الحياة أي مدةَ حياتك أن تفارقَهم مفارقةً كلية، لكن لا بحسب الاختيارِ بموجب التكليفِ بل بحسب الاضطرارِ المُلجِىءِ إليها، وذلك أنه تعالى رماه بداء عَقام لا يكاد يمَسّ أحدًا أو يمَسّه أحدٌ كائنًا من كان إلا حُمّى من ساعته حُمّى شديدةً، فتحامى الناسَ وتحامَوْه وكان يصيح بأقصى طَوقه: لا مِساس وحُرّم عليهم ملاقاتُه ومواجهتُه ومكالمتُه ومبايعتُه وغيرُها مما يُعتاد جرَيانُه فيما بين الناسِ من المعاملات، وصار بين الناس أوحشَ من القاتل اللاجىء إلى الحَرم ومن الوحش النافِر في البرية، ويقال: إن قومَه باقٍ فيهم تلك الحالةُ إلى اليوم، وقرئ لا مَساسِ كفَجارِ وهو علمٌ للمسّة، ولعل السرَّ في مقابلة جنايتِه بتلك العقوبةِ خاصة ما بينهما من مناسبة التضادّ فإنه لما أنشأ الفتنةَ بما كانت ملابستُه سببًا لحياة المَوات عوقب بما يُضادُّه حيث جُعلت ملابستُه سببًا للحمّى التي هي من أسبابُ موتِ الأحياء {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا} أي في الآخرة {لَّن تُخْلَفَهُ} أي لن يُخلفَك الله ذلك الوعدَ بل ينجزه لك ألبتةَ بعد ما عاقبك في الدنيا، وقرئ بكسر اللام والأظهر أنه من أخلفتُ الموعدَ أي وجدتُه خلفًا، وقرئ بالنون على حكاية قوله عز وجل: {وانظر إلى إلهك الذى ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا} أي ظلِلْتَ مقيمًا على عبادته فحُذفت اللامُ الأولى تخفيفًا، وقرئ بكسر الظاءِ بنقل حركةِ اللام إليها {لَّنُحَرّقَنَّهُ} جوابُ قسمٍ محذوفٍ أي بالنار ويؤيده قراءةُ لنُحْرِقنه من الإحراق، وقيل: بالمِبْرد على أنه مبالغةٌ في حرق إذا بُرد بالمِبرَد ويعضده قراءة لنَحْرُقنه {ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ} أي لنُذْرِينّه، وقرئ بضم السين {فِي اليم} رمادًا أو مُبْرَدًا كأنه هباءٌ {نسفًا} بحيث لا يبقى منه عينٌ ولا أثرٌ ولقد فعل عليه السلام ذلك كلَّه حينئذ كما يشهد به الأمرُ بالنظر، وإنما لم يصرح به تنبيهًا على كمال ظهورِه واستحالةِ الخُلْف في وعده المؤكّدِ باليمين. اهـ.
|